كان أمية بن أسكر شيخاً كبيراً في المدينة لم يدرك النبي عليه السلام ، لكنه أدرك
كبار الصحابة الصالحين رضي الله عنهم تعالى أجمعين . كان له ولد ٌ اسمه " كِلابْ "
كان من أحسن ما أن ترى من الشباب ، في صلاحه وتقواه ، وحرصه على طاعة والديه . لقي مرةً " كِلابٌ " اثنين من الصحابة فسألهما عن أفضل الأعمال ؟ . فقالا أفضل الأعمال( الجهاد في سبيل الله ) !! .
فمضى من ساعته إلى عمر . قال له يا أمير المؤمنين :
أرسل بي إلى الثغور . قال عمر : أحيٌ والداك ؟ . قال : نعم . قال : اذهب فاستأذن
هما ؟ . فذهب إلى والديه الشيخين الكبيرين ، فإذا هما لا يطيقان لفراقه صبرا . فلم
يزل بهما يقبل أيديهما ويلثم قدامهما حتى رضي له بذلك . فعاد " كِلابٌ " إلى عمر ،
وأخبره بإذن والديه ، فأرسله من ساعته إلى الثغور .
مضى " كِلابْ " إلى الثغور وبقي أبوه وأمه ليس لهما من يرعاهما ، أو يهتم بشؤونهما . فجلس الأب يوماً في ظل شجرة فإذا حمامةٌ تحنو على أفراخها ، فنظر إليها فتذكر ولده " كِلابْ " فأخذ يبكي ويقول :لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو عقلا الكتاب تركت أباك مرعـشةً يداه وأمك ما تـُسيغ لها شراب فإنك والتماس الأجر بعدي كباغ ِ الماء يتبع السراب ثم اشتد بكاؤه حتى فقد بصره ، فبدأ يدعو على عمر ولم يطق أن يدعو على ابنه .بدأ يدعو على عمر ويقول :
سأستعدي على الفاروق رباً له حج الحجيج إلى بثاقِ
إنِ الفـاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما بواقِ
وينشد الأشعار في ذلك ، حتى سمعه رجلٌ من قرابته . قال ما خبرك يا أبا كلاب فاخبره بخبره ، وشدة موجدته على ولده . فأخذ بيده ومضى به حتى أدخله المسجد ، و
أجلسه في حلقةٍ قريبةٍِ من حلقة عمر .ثم قال يا أبا كلاب ، والمسكين لا يدري أين هو
؟! يا أبا كلاب أنشدنا من أشعارك ؟ فبدأ ينشد ويقول :
سأستعدي على الفاروق رباً له حج الحجيج إلى بثاقِ
إنِ الفـاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما بواقِ
فنظر عمر . قال من هذا ؟ : قالوا هذا أبو كلاب أمية بن أسكر . قال ما خبره ؟
فأخبروه بخبره .فقام عمر من حلقته ، ثم أرسل إلى الثغور ، إذا وصلكم كتابي هذا
فابعثوا إلي " كِلابْ " على دواب البريد ، ودواب البريد ( هي دواب تجعل في وسط
الطريق على مسافات معينة ، بحيث إنهم إذا أرادوا أن يصل الشيء بسرعةٍ جعل ُ الراكب يركب على دابةٍ ثم تدرك بها قوتها حتى تصل إلى الدواب الأخر ثم ينزل منها ويركب أخرى حتى يختصر المسافة من مشي ثلاثة أيام أو أربعة إلى مشي يوم أو بعضه . حتى جاء " كِلاب " بين يدي عمر . فقال له عمر : يا كِـلابْ ما بلغ برك بأبويك ؟ قال :
والله يا أمير المؤمنين ، ما كنت أعلم أن شيء يفرحهما إلا فعلته قبل أن يطلباه مني
، وما أعلم شيء يحزنهما إلا تركته قبل أن ينهياني عنه . قال : إيهٍ ، أكمل . قال :
و والله يا أمير المؤمنين إني لأرعاهما كما ترعى الطير أفراخها . قال : إيهٍ ، أكمل
. قال : والله يا أمير المؤمنين إني إذا أردت أن أحلب من الناقة لبناً أقبلت بالليل
إلى أغزر ناقة ٍ في الإبل ، ثم أنختها و عقلتها ( يعني أقعدها على الأرض وربطها حتى
يخرُ اللبن في ضرعها طوال الليل ) ، قال : ثم إذا! أصبحت جئت قبل الفجر فأقمتها وبعثتها ثم أقبلت إلى ماءٍ باردٍ من البئر قبل الفجر ، ثم أخذت أغسل ضرعها وأغسله حتى يبرد اللبن في داخــل الضرع ، ثم إذا أذن الفجر حلبت منها ، ثم أقبلت بللنها إلى أبي فيشربه سائغا باردا .قال عمر : كل هذا لأجل أن تسقيه اللبن . قال : نعم وما سواه أعظم .قال عمر : أفعل كما كنت تفعل . فمضى "كِلابٌ " من ساعته حتى إذا أقبل على ناقةٍ من الإبل ، أقبل إليها ، ثم أناخها ثم صنع بها ما كان يصنع ، ثم أقبل بعد ذلك باللبن فوضعه بين يدي عمر بن الخطاب . فلما رآه عمر بين يديه ، أرسل إلى أمية بن أسكر أن أقدم إلي ، فما هو إلا أن جاء أمية بين يديه ، فلما رآه عمر وقد أقـفـل على الولد في غرفةٍ ولم يعلم أبوه بحضوره . قال له عمر : يا أمية ما بقي من لذاتك في الدنيا ؟ . قال: والله يا أمير المؤمنين ما بقيت أفرح لشيء ولا أحزن لشيء ، كل شيءٍ في الدنيا لا أريده . قال : أقسمت عليك أن تخبرني ما بقي من لذاتك في الدنيا . قال : والله ما بقي لي لذات . قال : أقسمت عليك أن تخبرني بأعظم ما تريد من الدنيا . قال له أمية : وددت والله يا أمير المؤمنين أن ولدي " كِلابْ " بين يدي أضمه ضمه ، وأ! شمه شمه قبل أن تخرج روحي من جسدي . قال له عمر : سيسرك الله بولدك إن شاء الله . ثم أقبل عمر إلى اللبن ، وناوله إياه . قال : خذ هذا قوي به جسدك . قال : ما لي إليه حاجه . قال : أقسمت عليك أن تشرب . فلما قربه أبو كلاب ورفعه إلى فيه ، أخذ ينتفض وينتفض ويبكي ويقول والله يا أمير المؤمنين إني لأشم في هذا اللبن رائحة يـدي ولـدي " كِلابْ " . فـبـكى عمر ، وأخرج " كِلابْ " إليه ودفعه بين يديه ، وقال له : يا كِلاب إن كنت تريد الجنة فليست والله هناك ، إن الجنة تحت أقدام هذا وتلك العجوز ، فمضى كِلاب ٌ بينهما . نعم أيها الأحبة الكرام إن طلب الجنة بالإقدام عليهما والعناية بهما وطاعتهما والاحتفاء بهما ، كيف لا وأنت إذا تأملت في كتاب الله جلّ وعلى وجدت أن الله سبحانه وتعالى ما يكاد يذكر عبادته إلا وذكر معها برّ الوالدين .اسمع إلى قوله جلّ وعلى ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( ، وقال سبحانه وتعالى ) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ( ، ) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ( بل إنك إذا تأملت في أحوال الأنبياء وجدت أن الله جلّ وعلى لا يكاد يذكر نبياً إلا ويذكر معه برّ الوالدين اسمع إلى قول الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام ) قال ربي اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ( واسمع إلى ما قاله الله تعالى عن عيسى عليه السلام ) وبرّاً بوالدتي ( و قال عن يحي عليه السلام) وبرّاً بوالديه
( وقال عن سليمان عليه السلام ) رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي
أنعمت عليّ وعلى والديّ .